• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التواصل بين اللسان واليدين

التواصل بين اللسان واليدين

التواصل حاجة ملحّة، فالإنسانُ يميلُ بفطرته إلى الاجتماع البشريّ وتبادل الكلام، فإن لم يجد إنسانًا يتحدث إليه، تحدّثَ مع نفسه ومع الكائنات والموجودات من حوله، فسمع صوته وأسمع أفكاره للجِوار، وكثيرًا ما يفكّر الإنسان بصوت مرتفع، بمخاطبة نفسه، والبوح بما في مكنونه، لفظًا يرمي به في الهواء، أو كلمات يقيدها في الأوراق، ولذلك خُلِقَت أرواح الناس مؤهّلة للتواصل.

    ولما كانت اللغة وسيلة التواصل الأكثر شيوعاً، فقد كان الاهتمام بما يتلفظ به الإنسان، من أبرز ما ألحّت عليه الثقافات والأديان واللغات، فالكثير من العقوبات والحدود والمخالفات والآثام، إنما ترتّبت شرعًا عن مجرد «كلام» يتكلم به الإنسان باطلًا، بدءًا بكلمة الكفر إلى كلمة القذف، إلى ما شابه ذلك من كلمات الغيبة والنميمة وعبارات السُّخرية والاستهزاء والتنابز بالألقاب وهَلُمَّ جرًّا، كما أنَّ بدْءَ الخير كله انطلاقاً من كلمة الإخلاص: «لا إله إلا الله» وما يتمّمها من «شهادة أن محمداً رسول الله»، إلى أبسط كلمات الإيمان والإحسان؛ كإفشاء السلام وإرشاد السّائل وبذل النصيحة وتعليم الناس... وغيرها من مواقف التّواصل والتّفاهم، ولذلك كان إلحاح الدين كبيرًا على إصلاح الكلام، ففي صلاح اللسان صلاح حال الإنسان، ومن ذلك هذه الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (سورة الأحزاب – الآية/ 70)، حيث يتبين من خلال هذا التوجيه الرباني، أن الكلمات السّديدة مفاتيح إصلاح الأعمال، بل وتغيير القلوب أحيانًا، مثلما نقرأ في قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (سورة فصلت – الآية/ 34-35)، حيث يتحول الآخر من عدو إلى ولي حميم، فتحسين الأداء اللغوي بانتقاء الأفضل من الكلمات والإشارات، يرتقي بالتواصل نحو أرقى النماذج وأرفع الدرجات.

 

 لغة الأيدي

وإلى جانب الكلام الذي يمثل عماد التواصل، هناك لغات أخرى، ومنها لغة الأيدي، ولا نقصد بها لغة الإشارة عند الصم والبكم، فهي لغة تحتاج إلى تعليم وتدريب وتخصّ فئة محدّدة، وإنّما المراد بلغة الأيدي تلك اللغة التي يتكلمها الناس جميعًا بإتقان، لأنهم ببساطة يولدون بها، وهي لا تحتاج منهم تعليمًا في المدارس والجامعات أو إيضاحاً أو ترجمة، فهي لغة الفطرة، تعبر عن المشاعر بعفوية وصدق، ويصعب تزييفها أو الاحتيال على معانيها.

ومن مفردات هذه اللغة تبادل المصافحة تعبيراً عن المودة والاحترام، لأنّه إذا ما تلامست الأكف والتقت الأيدي ترجم ذلك في بواطننا من غير أن ننتبه إلى التقاء القلبين وتصافحهما، ويستطيع البعض أن يلتقط الإشارات الخفية؛ حيث تكشف لغة الأيدي عن حالات القلب مما لا يستطيع المرء البوح به، فإنك أحيانًا تصافح إنسانًا فتشعر بالحزن، وأحيانًا الغضب وأحياناً الحياء، كل ذلك ينتقل عبر المصافحة بالأكف ومنها وعبرها تنتقل الأحوال والمشاعر لتؤثر في جودة التواصل، كما أننا عبر هذه اللغة نستطيع أن ننقل إعجابنا وامتناننا للآخرين، ومن ذلك حالة التصفيق عندما يعجبنا أداء بعض الناس من مبدعين وفنانين ورياضيين وغيرهم.

والمبايعة في الله التي هي من أصدق العهود وآكد الوعود بين نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام لا تتم إلا بالأيدي، كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة: (إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْه اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (سورة الفتح – الآية/ 10)، بل حتى المتشاحنين يتبادلون المصافحة إذا ما وقع الصّلح بينهم بعد خِصام.

والحاصل أنّ لغة الأيدي أوسع من أن نحيط بها في كلمات قلائل، إذ ليست مسؤولة عن التواصل الحسّي فحسب، بل تتعدّاه إلى التواصل الرمزي عبر إبداع الفنون الإنسانية الجميلة من رسم ونحت وخط وشعر وأدب ونثر، وغيرها، والتي كانت عبارة عن معاني في أذهان أصحابها لا وجود مادياً لها، ولولا الأيدي ما وُلِدت في عالم الحسّ والنظر، ولا لمُست ولا خُلّدت ولا سُمِعت ولا عُرِفَت، إذ هي الابن الشرعي البكر للغة الأيدي، والموسيقى كذلك هي من نتاج الأيدي، بل إنَّ أوّل لحن موسيقى عزفه الإنسان على وجه الأرض كان هو التصفيق بكفّيه.

     إن لغة الأيدي تقتضي الكثير من التأمل، لأن حياة الإنسان كلها قائمة على عمل الأيدي، والإنسان بسبب الألفة والاعتياد، يفقد الإحساس بقيمة هذه الأداة وأهمية الرسائل التي تنقلها للآخرين، فتأتي تصرفاته على السّجية والطبع، دون أيّ إحساس بالامتنان للخالق، ودون استثمار هذه النعمة الكبرى في شكر الله، بتحسين العمل وتجويده، وعبر الارتقاء بالتواصل في نقل مشاعر المحبة والرحمة، من خلال حرارة المصافحة أو الجود بالخير، علمًا بأن الجود ليس بالضرورة مرتبطًا بما هو مادي محسوس، فقد يكون الجود بالمشاعر أبلغ وأعظم أثراً في النفوس، فقد قال الحق سبحانه: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (سورة الحشر- الآية/ 9)، ولذلك فإنّ الكلمة الطيبة صدقة، واليد العليا خير من اليد السفلى.

إنّنا نستطيع القول بأنّ بوابة ارتقاء الإنسان، تكمن في إتقان لغة الأيدي، ليكون التواصل أماناً؛ أخذاً وعطاءً، برّاً وإحساناً.

 

التواصل: أمان

يروم التواصل نقل الحوار من الجفاء إلى الرحمة، ومن الغربة إلى الألفة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن أرقى صور التواصل ذلك اللقاء مع المُخالف ومنحه الأمان، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة، في قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (سورة التوبة – الآية/ 6)، حيث يلحّ القرآن الكريم على تداول المعرفة، في قوله (حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، ويترك للآخر حرية الاختيار بين الرد أو القبول أو الصّمت، في أمن تام، ودون أي خوف من قطيعة محتملة مع المخالِف أو الدخول معه في حرب ضمنية أو صريحة، وهذا جوهر التواصل الحقّ، الذي يفتح نافذة التفاهم الجميل، ولا يوجّه الأحداث نحو منحى معين أو يفرض نتيجة محدّدة.

إنّنا عندما نستحضر الأبعاد الخفية في التواصل نستطيع أن ننفد نحو العُمق وندرك جوهر التعارف الإنساني، فلا نتيه في الشكليات أو ننشغل بالمظاهر الخارجية الخادعة، لأنَّ تتبع الزلات ليس من شيم العقلاء، هؤلاء يركّزون على ما يؤلف القلوب ويمنح الأمان، ولا يتم ذلك إلّا بحُسْنِ التواصل وحُسن الظن بالآخرين.

إن بناء عالم رحب ورحيم، لا يقوم على المصلحة المشتركة فحسب، بقدر ما يتأسَّس على المحبَّة المتبادلة، والإحسان المتواصل، والجُود في المشاعر وفي العَطاء الماديّ المفضي بدوره إلى المزيد من التواصل، ومن ثم المزيد من الرحمة، والمزيد من الإنسانية.

أخيراً، إنّ التواصل لابدّ منه لاستمرار حياة الإنسان، ليس فقط كون الإنسان لا يمكن أن يعيش بصورة انفرادية، فهذا أمر بديهيّ، ولكن ليكون ذلك مُقَدِّمة للتعارف والتآلف وتحقيق التقارب والتكامل، ولذلك ينبغي إيلاء مهارات التواصل الأهمية القصوى داخل الأسرة، وفي فضاءات المدرسة، وأماكن الترفيه، وعموم المؤسسات، لتلقين الناشئة والمتعلمين أخلاق الحوار والتفاهم والارتقاء بمستوى التواصل، بوصفه مهارة ناعمة أو ذكاءً اجتماعياً يعكس نضجاً في الشخصية، ويُعبّر عن انخراط إيجابي في عصر التواصل بكل لغاته وأدواته.

ارسال التعليق

Top